فصل سوم : از خطبه قاصعه
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ اَلْأُمَمَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ صَوْلاَتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلاَتِهِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ وَ اِسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ اَلْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ اَلدَّهْرِ فَلَوْ رَخَّصَ اَللَّهُ فِي اَلْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ اَلتَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ اَلتَّوَاضُعَ فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي اَلتُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اِخْتَبَرَهُمُ اَللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ اِبْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ اِمْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ فَلاَ تَعْتَبِرُوا اَلرِّضَا وَ اَلسُّخْطَ بِالْمَالِ وَ اَلْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ اَلْفِتْنَةِ وَ اَلاِخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ اَلْغِنَى وَ اَلاِقْتِدَارِ وَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ 1 16 23 : 55 56 فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَ لَقَدْ دَخَلَ ؟ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ ؟ وَ مَعَهُ أَخُوهُ ؟ هَارُونُ ع ؟ عَلَى ؟ فِرْعَوْنَ ؟ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ اَلصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا اَلْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ أَ لاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ اَلْعِزِّ وَ بَقَاءَ اَلْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ اَلْفَقْرِ وَ اَلذُّلِّ فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ اِحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ اَلذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ اَلْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ اَلْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ اَلسَّمَاءِ وَ وُحُوشَ اَلْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ اَلْبَلاَءُ وَ بَطَلَ اَلْجَزَاءُ وَ اِضْمَحَلَّتِ اَلْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ اَلْمُبْتَلَيْنَ وَ لاَ اِسْتَحَقَّ اَلْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ اَلْمُحْسِنِينَ وَ لاَ لَزِمَتِ اَلْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى اَلْأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ اَلْقُلُوبَ وَ اَلْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَسْمَاعَ أَذًى
[ 453 ]
وَ لَوْ كَانَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لاَ تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لاَ تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ اَلرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ اَلرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى اَلْخَلْقِ فِي اَلاِعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي اَلاِسْتِكْبَارِ وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ اَلنِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ اَلْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ اَلاِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ اَلتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ اَلْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ اَلاِسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ اَلاِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لاَ يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ وَ كُلَّمَا كَانَتِ اَلْبَلْوَى وَ اَلاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ اَلْمَثُوبَةُ وَ اَلْجَزَاءُ أَجْزَلَ أَ لاَ تَرَوْنَ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ اِخْتَبَرَ اَلْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ ؟ آدَمَ ص ؟ إِلَى اَلْآخِرِينَ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَ لاَ تَنْفَعُ وَ لاَ تُبْصِرُ وَ لاَ تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ اَلَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ اَلْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ اَلدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ اَلْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لاَ يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لاَ حَافِرٌ وَ لاَ ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ ؟ آدَمَ ع ؟ وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ اَلْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا اَلسَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ اَلشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ اِبْتِلاَءً عَظِيماً وَ اِمْتِحَاناً شَدِيداً وَ اِخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اَللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ اَلْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ اَلْأَشْجَارِ دَانِيَ اَلثِّمَارِ مُلْتَفَّ اَلْبُنَى مُتَّصِلَ اَلْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ اَلْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ اَلْبَلاَءِ وَ لَوْ كَانَ اَلْأَسَاسُ اَلْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ اَلْأَحْجَارُ اَلْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ اَلشَّكِّ فِي اَلصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ ؟ إِبْلِيسَ ؟
عَنِ اَلْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ اَلرَّيْبِ مِنَ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ اَلشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ اَلْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ اَلْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ
[ 454 ]
فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي عَاجِلِ اَلْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ اَلظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ اَلْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ ؟ إِبْلِيسَ ؟ اَلْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ اَلْكُبْرَى اَلَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ اَلرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ اَلسُّمُومِ اَلْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لاَ تُشْوِي أَحَداً لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ اَلزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ اَلصِّيَامِ فِي اَلْأَيَّامِ اَلْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ اَلْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ اِلْتِصَاقِ كَرَائِمِ اَلْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ اَلْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ تَذَلُّلاً مَعَ مَا فِي اَلزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ اَلْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ اَلْمَسْكَنَةِ وَ اَلْفَقْرِ اُنْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ اَلْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ اَلْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ اَلْكِبْرِ